الأرض والزراعـة

نهب الأرض

إن العلاقة بين الشمال وشعب البجه عبارة عن سلسلة طويلة من الاستغلال، ونهب أرض البجه وقوة عملهم ومواردهم المعدنية والزراعية وموقع البلاد الاستراتيجي. إن العمل والموارد والأرض هي محور النزاع حول مستقبل البجه. وقد اتخذ هذا النزاع صورا من المطالبات القومية في شكل تحرك سياسي من أجل الاستقلال الوطني لشعب البجه ولكن القضاء على التحكم في العمل والموارد والأرض يشكل مضمون مساعي البجه من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي.

وبالرغم من التحولات الهامة التي حدثت في (السودان) منذ خروج بريطانيا، ظل طابع المستعمرات هو السمة المميزة لاقتصاد البجه - وما يريده البجاوي ليس تنازلا وإنما استعادة أرضه - ذلك لأن الاغتصاب والنهب الصريح لأرض البجه هو السبب الجذري لفقر البجه وعوزهم اليومي. وسواء منذ اندفاع الوافدين الشماليين إلى البلاد مع المستعمرين البريطانيين، أو عند خروج البريطانيين من البلاد. فإن اختطاف الأرض هو الهدف الرئيسي. فعن طريق الاستيلاء المباشر والغش والخداع واستغلال النفوذ وباستخدام كل وسيلة ميسورة تمكن الشماليون من الاستيلاء على الأرض. بيد أن الأمر الأكثر أهمية هو أن الأرض التي تركت في أيدي البجه كانت أقلها خصباً. على حين كانت الأرض التي انتزعها الوافدون الشماليون أكثر خصباً وبالرغم من ضخامة بلاد البجه. فلقد أصبحت الأرض سلعة ثمينة ونادرة للغاية بالنسبة للبجه. ذلك لأن البجه محصورين في الأراضي القليلة الخصوبة المحرومة من تسهيلات الري الجيدة مما يضطرهم إلى التزاحم في المناطق القليلة التي توجد بها موارد المياه، وهذه المصاعب الضخمة تشكل كارثة بالنسبة للزراعة الناجحة والمراعي الغنية.

تبنت حكومة الخرطوم منذ الاستقلال سياسة تأميم ودمج إدارة الأراضي في النظام البيروقراطي الفاسد. وأعلنت الدولة (1971م) أن كل الأراضي غير المسجلة، مشغولة أم لا، تسجل باسم الدولة. واستخدم هذا القانون لإطلاق يد الحكومة في اغتصاب أراضي البجه وتوزيعها عن طريق الرشوة والفساد والمحسوبية للسكن والتجارة والمشاريع الزراعية دون اعتبار لحقوق البجه الشرعية فيها. وتم تطبيق سياسة الخصخصة في عهد نظام الجبهة وأدى هذا إلى تلاشي تدفق السلع والمال من المشاريع الى المناطق الفقيرة مما أضر بالبجه سكان الريف والرعاة، ويتم هذا لتحقيق مكاسب شخصية للفئة الشمالية المهيمنة، تحت مظلة مصلحة الاقتصاد والوطن (السوداني) وعن طريق الإضرار بالبجه أصحاب الأرض ناهيك عن تحقيق مصلحة لهم.

اسـتخـدام الأرض

قبل الاستعمار، كانت طريقة الحياة المهيمنة هي الرعي والزراعة للاكتفاء الذاتي في شكل مزرعة صغيرة لكل أسرة. وكانت أعداد المواشي أصغر بكثير آنذاك. وفي مساحات معينة كانت قابلة لاستخدام الإنسان واستخدمت في الزراعة التقليدية المطرية على نطاق محدود لإعاشة السكان.

وفي فترة الاستعمار التركي وبعده البريطاني، انفتحت الولاية على العالم الخارجي. وتم توجيه الاقتصاد نحو السوق والاقتصاد النقدي بتغييره تدريجياً من الأشكال التقليدية لاستخدام الأرض. وساعدت السكة الحديد والاستقرار السياسي النسبي في تعجيل نسبة التغيير. وأصبحت الزراعة مهمة. وكانت الخطوات المتقدمة الكبرى لعملية التغيير هذه على سبيل المثال: الانتاج التجاري للقطن في توكر ثم في مشروع دلتا القاش عام 1923م، وبداية الانتاج البستاني قرب مدينة كسلا عام 1940م، ومشروع القدمبلية للزراعة الآلية عام 1945م، واكمال خزان خشم القرية عام 1961م، وتطورت المدن كمراكز إدارية وتجارية، ومراكز خدمة مثل: القضارف وكسلا وأروما وخشم القربة.

تغير استخدام الأرض بسرعة خلال أيام الاستعمار البريطاني الأخيرة وبعد خروجه وأدى هذا إلى منافسة حادة لاستحواذ الأرض وانبثاق اقتصاد ذو طبيعة مزدوجة، تقليدية وعصرية. وتميزت هذه الفترة بازدياد درجة التنوع، والتوسع في الأرض وتكثيف استخدامها والتي اصبحت مجهدة في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات إلخ.

إفـقـار المـزارعـين والرعــاة

إن سبب الاستيلاء على الأراضي بالجملة في بلاد البجه الواسعة، هو للحيلولة دون أن يصبح المزارع البجاوي منافسا للمزارع الشمالي، أو لأصحاب المزارع الرأسمالية الواسعة من الشماليين، وافقار المزارع البجاوي إلى درجة يرغم معها معظم الشبان البجه على العمل مع السلطة الشمالية وفي الميناء أو المزارع. وهكذا لم يصبح إثراء الوافدين الشماليين هو وحده الهدف في السياسة الرسمية للحكومة الشمالية وإنما الإفقار المتعمد للبجه لإبادتهم.

وقد مضى الشماليون إلى أبعاد شاذة كي يمنعوا المنافسة البجاوية في الزراعة، بل تبدو الخطوات التي تتخذ أكثر شذوذا عندما يتأمل المرء التقارير الرسمية عن (تأخر) البجه (وعدم كفايتهم) كزراعيين. والحقيقة كما كشفت عنها تصريحات كثير من المعلقين هي أن الشماليين، من الذين تأكدت عدم كفايتهم كمزارعين، هم حتى عندما يمتلكون أفضل الأراضي وأجودها كان يتعين أن يتلقوا بصورة دائمة المعونات المالية من الحكومة، وأن يتمتعوا بحمايتها في وجه المنافسة البجاوية، عن طريق ادخال مختلف أنواع القيود والتحديدات على الزراعة البجاوية وتطبيق مختلف إجراءات التمييز لصالح المزارع الشمالي في مزارع الخضر والفواكه في كسلا وبورتسودان والزراعة الآلية في القضارف والحواشات في حلفا الجديدة  والرهد وكذلك القاش وبركة، ويكفي تسليمهم حواشات الجزيرة للأفارقة.

 الإكتـفـاء الـذاتي :

قبل مجيءbالإنجليز والمستوطنين الشماليين كان كل سكان بلاد البجه من الأهالي يتمتعون بالإكتفاء الذاتي من الناحية الاقتصادية... فمن الناحية الأساسية كانت كل عائلة من البجه تنتج طعامها الخاص عن طريق زراعة المحصولات وتربية المواشى كما كانت تقوم أيضا ببناء الأكواخ الخاصة بها، وصناعة معظم ملابسها وأدواتها وأوعيتها المنزلية. وكان هناك حرفيون متخصصون يقومون بصنع ومقايضة أدوات وأوعية معينة، وكذلك بعض البضائع الأخرى فيكملون بذلك دخلهم من الزراعة. ومنذ مجيء الإنجليز وسدنتهم من المستوطنين الشماليين إنهار هذا الإكتفاء الذاتي القديم. إن انهيار الإكتفاء الذاتي، وتدمير الزراعة البجاوية والقضاء على المراعي وبالتالي حيواناتها وقطع الغابات هي أساليب استعمارية لا زالت حكومات الخرطوم الشمالية تفرضها على البجه إلى يومنا هذا، وذلك لأن المزارع البجاوي المستقر القادر على أن يعيش مستقلا عن مزارع المستوطنين ومصانعهم هو آخر ما يمكن أن تسمح به السلطات.

ظلت السياسة الاستعمارية تنحصر في سلب شعب البجه من معظم أراضيه، وفي الحيلولة بمختلف إجراءات التمييز والتقييد دون ظهور اقتصاد زراعي بجاوي منتعش. وهكذا تحطمت الزراعة القديمة القائمة على الإكتفاء الذاتي، لا عن طريق الاستيلاء على الأراضي والسخرة فحسب بل أيضاً عن طريق تطبيق نظام ضريبة القطعان، وهي الضريبة النقدية التي كانت ترغم البجه على البحث عن النقود. بيد أن أية محاولة من جانب البجه للإفلات من المصيدة، وللحصول على النقود عن طريق التحول من الزراعة القائمة على الإكتفاء الذاتي إلى زراعة المحصولات النقدية وبذا يتجنبون العمل بأجر لدى المستوطنين وحكومتهم لا زالت تعوقها بدرجة كبيرة سياسة الدولة القائمة على محاباة المستوطنين الشماليين وتمييزهم على البجه، وعلى فرض القيود على الأخيرين.

تدمـيـر الـريــف

إن دمار الريف على نطاق مساحات هائلة في بلاد البجه، الذي هو نفسه نتيجة طبيعية لسياسة الاستعمار البريطانى وحكومات الخرطوم الشمالية من بعده، التي تؤدي إلى خلق نقص في الأرض وإلى التزاحم السكاني للبجه - قد أسفر عن حلزون يهبط بضراوة، حلزون لا يمكن القضاء علىه إلا بالقضاء على النظام الاستعماري الاستغلالي في بلاد البجه.

وإنه لطيلة سنوات عديدة وإلى الآن يتعرض البجه لضغوط من الحكومات الشمالية المتعاقبة للتخلي عن نظامهم التقليدي في الملكية االقبلية للأرض ولأن يتخذوا بدلا عنها نظام السند الفردى لملكية الأرض سواء في شكل تملك حر أو حيازة بالإيجار، وبهذه الطريقة تصبح الأرض البجاوية، سلعة تباع وتشترى في السوق أو تستأجر من أصحابها.

إن تحويل الأرض إلى سلعة تباع وتشترى وخلق الحيازات الفردية في ظل الظروف الراهنة في بلاد البجه، التي تعوق فيها سيطرة المستوطنين الشماليين على الأرض والموارد الطبيعية والعمل والتطور الاقتصادي البجاوي، وحيث المنتج البجاوي، سواء في حالة البيع أو الشراء، يجد نفسه في سوق تسيطر علىها الإحتكارات القوية، لا يمكن لهما أن يوفرا حلا أبدياً لقدر المزارع البجاوي ونصيبه.

المحـصــول الـواحــد 

إن سياسة المحصول الواحد، وهي سمة نموذجية من سمات الاستعمار تلاحظ في بلاد البجه. فلقد خصصت مناطق كاملة لزراعة القطن وسواء أكان مثل هذا الانتاج يمارس في شكل مزارع رأسمالية كبيرة، أو في شكل حيازات فردية بجاوية صغيرة فإن التربة تصبح شديدة الإجهاد ويسرع إليها التدهور والفساد، بالإضافة إلى خطر انتشار أمراض النباتات.

وقد أسفر التوسع في زراعة القطن في بلاد البجه عن دمار شامل لأراضي الغابات العالية القيمة في دلتا بركة والقاش والقضارف والرهد كما قضى على المراعي والحيوانات.

وعلاوة على ذلك فمع تخصيص كل هذه المقادير الضخمة من الأرض وقوة العمل والموارد لمحصول القطن والذي هو أساسا للتصدير، أهمل انتاج الطعام اللآزم للمتطلبات المحلية، وانتشرت المجاعات وسوء التغذية.

إن الإعتماد على محصول نقدي واحد أو على عدد قليل من المحصولات النقدية، يترك هذه المنطقة معرضة بصورة خطيرة لكل التقلبات في أثمان منتجاتها في الأسواق العالمية، خاصة بعد تطبيق إتفاقية التجارة الحرة، ويؤدي إلى عدم الاستقرار الاقتصادي.

بيد أنه حتى عند وجود أثمان مواتية في السوق، فلن يكون المزارع البجاوي الفقير هو المستفيد من زراعة المحصولات النقدية إذ تذهب عائداتها لحكومة الخرطوم الشمالية.

الأرض لمـن يـفـلـحـها :

إن سياسات الأرض والسياسات الزراعية في بلاد البجه التي انتهجتها الحكومات الشمالية السابقة والحالية، لا تهدف إلى مساعدة الزراعة البجاوية، وإنما تعد نقطة البدء فيها، بل غرضها الأساسي المحافظة على الاستغلال وحماية المصالح الاحتكارية، بما فيها ضمان عرض ثابت من العمل البجاوي الرخيص.

إن تقييد ملكية الأرض بقوانين على أساس عنصري يجب أن ينتهي ويعاد توزيعها على البجه أصحابها والذين يفلحونها وذلك من أجل إبعاد شبح المجاعة واشتهاء الأرض.

الـزراعــة 

تتحكم السياسة الزراعية الحكومية، التي تبحث عن مصادر للعملات الأجنبية باستغلال أراضي البجه، إلى جانب المناخ في كمية ونوع الزراعة في بلاد البجه فبينما نجد في شمال البلاد وساحلها أراضي قاحلة نجد أيضاً في جنوبها مناطق خصبة وهكذا نرى أن أجزاء البلاد مكملة لبعضها البعض من الناحية الاقتصادية إذ تتوفر في جنوبها مناطق الانتاج وفي شمالها الشرقي مناطق الاستهلاك ومرافيء التصدير.

وتتمثل في البلاد أربعة أنماط زراعية. هي الزراعة الفيضية والمطرية والمروية ثم زراعة البساتين بالسواقي حول مدينة كسلا.

وتصل نسبة الزراعة المطرية في منطقة القضارف إلى 82% (عمدت حكومة نظام الإنقاذ إلى فصل القضارف في ولاية مستقلة يتولاها أحد كوادرها لتستأثر بخيراتها، خاصة الزكاة، 1999م). أما المساحة المزروعة بالري المنتظم فتبلغ 12% في مشروع خشم القربة وتنخفض نسبة الزراعة الفيضية إلى 4% في مشروعي القاش وتوكر. وتشكل نسبة زراعة الفواكه والخضروات حول كسلا وبطون ا لأودية 2% من المساحة المزروعة في البلاد.

والحاصلات الزراعية هي القطن في دلتا توكر والقاش بالإضافة إلى الخروع. ومن أهم المحاصيل أيضا الذرة والدخن والسمسم والقمح والفول السوداني وقصب السكر والصمغ.

 ويتكون الجزء الجنوبي من البلاد من سهول طينية منبسطة ويستغل عن طريق الزراعة الآلية، حيث يكفي منسوب الأمطار لانتاج بعض المحاصيل الغذائية والنقدية، وجزء آخر في وسطها تتهيأ له فرص الري من أنهار تنحدر من مرتفعات اريتريا في  الشرق، وفي شمال مدينة كسلا حيث تمتد سهول رسوبية على درجة عالية من الخصوبة ويروي جزءاً يسيراً منها موسميا نهرا القاش وبركة، فإنه من جميع هذه المناطق تقوم امكانات هائلة للتنمية الزراعية أفقيا ورأسياً. وفي شمال البلاد ووسطها تنحدر وديان موسمية تكوّن جيوبا رسوبية يصلح استغلالها في الانتاج الزراعي المكثف ولا يستغل منها حالياً إلا 30%..

أنــواع النـشــاط الـــزراعـــي في كسلا والقضارف

إن أكثر من 60% من السكان النشطين يشتركون في الزراعة. ويوفر هذا القطاع الغذاء والحبوب والمحاصيل النقدية. وتصدر كسلا منتجات زراعية لباقي (السودان) وأيضاً للأسواق العالمية. ومن زاوية اقتصادية، يمكن تقسيم الزراعة في المنطقة إلى زراعة اعاشية وشبه تجارية وتجارية. وتقع هذه الأنواع في المشاريع الزراعية الكبرى المطرية والمزارع المروية، ويتكون كل منها من عدد من المشاريع الفرعية. وتحتل الزراعة المطرية أكثر من 90% من المناطق الزراعية في ولاية كسلا والقضارف. وأقل من 10% هي زراعة مروية. وإذا أخذنا في الاعتبار حالات التربة، فإن جزءاً كبيراً من أراضي الولاية صالح للزراعة أو للري. والمناطق التي تروى بالأمطار اكتمل انتاجها، على حساب المراعي والغابات. ويعتمد التوسع في الأراضي المروية على وجود المياه لريها.

الزراعة المطرية في كسلا

تتوزع في مناطق نهر أتبره والقرقف ونهر ستيت، وتقدر المساحة الكلية للري المطري بنحو 2 مليون فدان يستغل منها نحو (2،1) مليون فدان. المساحة الصالحة للزراعة المطرية التقليدية (180) ألف فدان، المستغل منها (90) ألف فدان. المساحة الصالحة للزراعة المطرية الآلية (100) ألف فدان، المستغل منها (1080) ألف فدان. المساحة الصالحة للزراعة بالري الفيضي (800) ألف فدان، المستغل منها (92) ألف فدان. المساحة الصالحة للزراعة بالري الصناعي (544) ألف فدان، المستغل منها (282) ألف فدان. المساحة الصالحة لزراعة البساتين (336) ألف فدان، المستغل منها (50) ألف فدان.

زراعة الحواشات

يمارس مزارعو الحواشات الزراعة المروية في المشاريع المروية الكبرى ويتمتعون بقدر قليل جداً من الحرية، لأنهم يعتمدون على إدارة المشروع في نظام المحاصيل وتسويقها وتكاليف المياه والخدمات الأخرى. وعندما تكون الحواشه بإيجار دائم فإنهم يحصلون على حوافز لإدارة الحواشة وتحسينها.

إن تربية الحيوانات استثمار جذاب اقتصادياً، نوع من حساب الادخار المصرفي، إضافة إلى هذا، فإن الدخل الناتج عن تربية الحيوانات بطريقة مستقلة يتم بدون علم إدارة المشروع. ولا يتحمس مزارعو الحواشات لتربية الحيوانات لأنهم يتنافسون مع بعضهم البعض ومع الرعاة على مصادر الرعي، خاصة جوار المشاريع. والهدف الرئيسي لإدارات المشاريع هو تحقيق العملات الأجنبية من خلال زراعة المحاصيل المدرة للنقد الأجنبي. وعلى المدى القصير، فإن هذا يتعارض مع زراعة المحاصيل الغذائية، وحطب الوقود. وهذه طريقة استخدام غير مستدامة عند أخذ المناطق التي حول المشاريع المروية بعين الاعتبار.

زراعة البساتين في كسلا

تعتمد زراعة المنتجات البستانية على سحب المياه الجوفية والسطحية من الأنهار بالآلات وتتوزع بين نهر أتبره ومنطقة كسلا وبساتين حلفا الجديدة وجروف نهر أتبره، وتقدر المساحة الكلية بولاية كسلا بنحو (236) ألف فدان يستغل منها حوالى (50) ألف فدان تزرع بمحصولات الخضر والفاكهة وبعض الأعلاف، ويقد الإنتاج منها بنحو (355) ألف طن في العام. يزرع مزارعو البساتين الخضراوات والفواكه ويبيعونها. وهذه المشروعات التجارية تزدهر في أماكن لها مياه ري سطحية طوال العام ولديها أيضاً أسواق. وتؤجر البساتين لفترات طويلة أو تكون ملكاً للمزارع. لذا يكون المزارع مهتماً بإضافة قيمة لمزرعته بتحسين إدارة مصادر التربة والبنية الأساسية. وبما أن المياه السطحية والجوفيه هي مصادر مشاعة، فقد تتعرض للنضب في النهاية وقد تنشأ المنافسة عندما تصل هذه المصادر إلى نقطة الندرة، ويؤدي هذا إلى استخدام مضخات أكبر وآبار أعمق. وتشاهد مؤشرات هذه العمليات سلفاً في المنطقة التي حول مدينة كسلا.

وفي مجال البساتين فلقد تم ترشيد استهلاك المياه في منطقة كسلا للحصول على انتاج أفضل وفي منطقة حلفا الجديدة يوجد 23 ألف فدان يمكن استثمارها في زراعة الخضروات ولكن ندرة المياه تعوق هذا الاستثمار، ولكن إذا تم تعمير مشروع نهر سيتيت فإنه يمكن زراعة كميات إضافية من البساتين، وهناك إمكانات للتوسع في حلفا وتوتيل وجنوب توكر ولكن المياه لا تكفي إلا للمحاصيل التي تدخل في الدورة الزراعية ولاحتياجات الإنسان والحيوان.

الزراعة التجارية

هذه الفئة من مستخدمي المصادر تهتم بالزراعة من ناحية المحصول. وعادة ما يكون هناك نشاط آخر بنفس الأهمية أو أكثر مثل التجارة أو الإدارة. ويمارس تجار الزراعة نشاطهم على مساحات شاسعة من الأرض لزراعة الذرة والسمسم في المشاريع الزراعية الآلية المطرية داخل وخارج المشاريع المخططة. وهذه مشروعات تجارية بحته بقدر محدود جداً من الإلتصاق بالأرض وبالتالي حوافز قليلة لإدارة المصادر، لأنه حتى وقت قريب كانت لا توجد ندرة في الأرض الزراعية. وقلة الانتاج في مزرعة ما تؤدي إلى هجرها والانتقال إلى استغلال مزرعة جديدة. ولا يمكن الحصول على محصول جيد عندما ترتفع أسعار العمالة وتتدنى أسعار الذرة. وتستثمر الأرباح في النشاطات الاقتصادية الأخرى، مثل تربية المواشي أو امتلاك العقارات والأراضي. وبعكس مستخدمي المصادر الأخرى، فإن المزارع التجاري لديه طرق وصول لسلسلة من الفرص التجارية الأخرى. والآن وقد بدأت الأرض تصبح نادرة، فإن التعلق بالأرض قد يزداد، وكذا الحوافز للإدارة الزراعية المحسنة.

مشروع الرهد الزراعي

جاء في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 13/3/1998م عن مشروع الرهد الزراعي ما يلي:- ضخامة وتنوع: يقع مشروع الرهد الزراعي على الضفة الشرقية لنهر الرهد (كل المشروع في بلاد البجه بغض النظر عن تغيير الخريطة الإدارية، وهذا دليل آخر على الظلم ونهب ثروات البجه)، وتتوزع أرضه على ثلاث ولايات هي القضارف والجزيرة وسنار. وللمشروع أهداف عديدة بينها الانتاج البستاني والتصنيع والتصدير، وهو يسعى لرفع المستوى المعيشي للسكان وزيادة الدخل القومي، وإيجاد فرص العمل لـ 200 ألف مواطن.

وقد بلغ حجم التمويل الكلي للمشروع حوالى 408 ملايين دولار بمكونه المحلي والأجنبي، وساهمت فيه عدة هيئات دولية وصندوق النقد السعودي إضافة إلى صندوق النقد الكويتي، ويبلغ عدد المزارعين في المشروع حوالى 116 ألف مزارع من جملة 250 ألف نسمة هم عدد السكان في المنطقة.

وقبل قيام المشروع كانت المنطقة محدودة الخدمات في مجالات التعليم والصحة والكهرباء وانعدام مياه الشرب. ومنطقة المشروع عبارة عن منطقة صخور أساسية ليست فيها مياه جوفية كافية، أضف إلى ذلك قلة المياه السطحية والأمطار التي يتراوح معدلها بين150 ملم في الجزء الشمالي من المشروع و700 ملم في الجزء الجنوبي، وكانت نسبة ضئيلة من السكان تشتغل بالزراعة التقليدية المطرية في مساحات ضئيلة إضافة لحرفة الرعي التي هي السمة الغالبة للبجه أهالي هذه المنطقة.

منطقة جاذبة: بعد قيام المشروع بدأت مرحلة جديدة في حياة مواطني المنطقة، حيث تطورت عمليات الانتاج وتوطين المزارعين واستقرارهم، كما واكب ذلك قيام مستوطنات ضخمة، إذ تم تجميع القرى والفرقان في 46 قرية على طول المشروع، وتم توفير الخدمات لها مما جعل منطقة المشروع جاذبة لأعداد كبيرة من النازحين الذين اضطروا للاستقرار بالمنطقة بعد أن كانوا عمالة موسمية. (مثل هذه المشروعات والممارسات أدت إلى تشريد البجه الرعاة أصحاب الأرض وجلبت مكانهم مستوطنين من غير البجه).

إن تكاليف الانتاج والعائدات الكلية والصافية لهذا النشاط الاقتصادي تتيح للمزارع في النهاية عوائد كبيرة مباشرة وغير مباشرة، وقد انعكس هذا النشاط بدوره على التطور والتنمية الاجتماعية وفي تغيير نمط الحياة للأفضل. ويشمل الموسم الزراعي الصيفي لعام 1999م/2000 زراعة 85 ألف فدان قطن و67323 فدان فول.

وعن الحالة الاجتماعية للمواطنين بعد قيام المشروع، أفادت دراسة بأن 39% من أفراد الأسرة أميين. وبالنسبة للسكن هناك حوالى 68% من المباني من المواد الثابتة، و32% من المواد المحلية. وأفاد أقل من 20% من المزارعين بأن الدخل أو العائد من نشاطهم في المزارع يكفي لاعاشتهم بينما ذكر  33% منهم أن لهم نشاطاً آخر غير الزراعة. أما بالنسبة للحصول على المياه النقية فقد أفاد حوالى 54% بحصولهم عليها بينما أفاد 46% بأنهم يحصلون على المياه من ترع الري للشرب والاحتياجات الأخرى.

وأضافت الدراسة أن حوالى 77% من الأطفال محصنين ضد الأمراض بينما 46% من المواطنين يلجأون إلى العلاج التقليدي. (من الواضح فشل المشروع اقتصاديا في توفير دخل كافٍ للمزارعين حيث يبحثون عن عمل إضافي، كذلك قضى على المراعي وحيواناتها من أليفة وبرية، كما أصيب السكان بأمراض عديدة جراء شربهم مياه القنوات الملوثة يضاف إلى هذا فشل المشروع اجتماعياً في تطوير البجه أصحاب الأرض).

مشاكل مشروع الرهد

أكد وزير زراعة الإنقاذ (1999م) أن المشاكل والمعوقات في مشروع الرهد تتمثل في عطل مضخات مينا الرئيسية لري المشروع. ومن 12 مضخة تعمل واحدة فقط بكفاءة عالية وإثنتان بكفاءة متوسطة، والبقية متعطلة. وتتراكم كميات كبيرة من الطمي والحشائش بكل الترع والمصارف والقنوات مما أدى في آخر موسم انتاجي لاستقطاع أكثر من 60% من مساحات المحاصيل بسبب الغرق والعطش. كذلك يوجد نقص في المرشدين الزراعيين ونقلهم. وهناك مشاكل نقابية مع العمال وإضرابات لتأخير المرتبات وتعثر التمويل وتوقف عمليات حفر القنوات وعدم انسياب المواد البترولية وانقطاع التيار الكهربائي من المحالج والورش والسكن للضغط لدفع فاتورة الكهرباء للمضخات. وتبلغ تكلفة الصيانة حوالى 12 مليار جنيه، إضافة إلى ديون فشل الموسم السابق وتدني الانتاجية وانخفاض أسعار القطن. كما تصل مديونية شركة دان فوديو وحدها  12 مليار جنيه، والكهرباء 5،3 مليار جنيه.

جاء في صحيفة الخليج الإماراتية عدد يوم 10/1/2000م أن وزارة الري قد أعلنت عن تأهيل مضخات مشروع الرهد الإحدى عشرة بقرض من البنك الإسلامي للتنمية بجدة قدره مليون دولار.

مشروع القاش الزراعي 

نهر القاش رافد يتدفق موسمياً من الهضبة الحبشية، متخذاً مساره داخل الحدود البلاد في منطقة جنوب كسلا. ولقد قامت قبيلة الحلنقا بشق مجرى النهر في قصة بطولية.

ومتوسط حجم تصريف نهر القاش السنوي للمياه حوالى 686 مليون متر مكعب، تصرف في فترة 90 يوما تقريبا، أكثرها في أغسطس حيث يمر حوالى 45% من جملة التصريف السنوي. ولقد اعتمد علىه البجه منذ زمن طويل في زراعة الذرة، وعرفت تربته بخصوبتها وجودتها. وفي فترة الحكم التركي المصري على بلاد البجه 1821 ــ 1885م أدخل الأتراك زراعة القطن في منطقة القاش للاستفادة منه في مصانع الغزل والنسيج في مصر. وهكذا حرم البجه من زراعة الذرة غذاؤهم الرئيسي وفرض علىهم المستعمر زراعة القطن إلى يومنا هذا.

الشركة الإنجليزية

وفي حوالى عام 1905م جرت محاولة لإقامة سد ترابي/ خشبي على النهر ولكن السد إنهار أمام التيار القوي للماء. وفي حوالى عام 1915م تقريبا قامت مصلحة الري (السوداني) آنذاك بحفر ترعة في محاولة لزيادة الرقعة الصالحة للزراعة للاستفادة منها في زراعة الذرة. وفي عام 1924م قامت الحكومة الاستعمارية بمنح إمتياز استثمار منطقة دلتا القاش إلى شركة إنجليزية عرفت بإسم (شركة أقطان كسلا) وأقامت الشركة بعض السدود في محاولة لتوحيد مجرى النهر. وكان هذا العمل النواة الأولى لنهر القاش.

ولم تستمر الشركة الإنجليزية التي كان هدفها الكسب غير المشروع والاستغلال إذ ثارت علىها قبائل البجه الموجودة في المنطقة.. ومن ثم تولت الحكومة إدارة المشروع عن طريق لجنة صدر أمر بتكوينها عام 27/1928م. وعرفت فيما بعد ( بلجنة القاش ).

الفشل تاريخياً

ذكر أندرو بول في كتابه عن البجه Xلم يكتب النجاح لهذا المشروع رغم التوسع الأفقي فيه، والسبب في ذلك التعارض الواضح بين النظرة التجارية والحقوق القبلية للهدندوة والذي تمثل في فقدهم لعائد الذرة والرعي. وأهم من ذلك الحد من حركتهم وترحال حيواناتهم في أرض يعتبرونها ملكا خالصا لهم. ونتيجة لعدم تعاونهم مع الحكومة الاستعمارية، استجلبت الحكومة مزارعين شماليين من وادي النيل. لم يزد هذا الإجراء الأمور إلا تعقيدا لأن الهدندوة الرافضين لزراعة القطن بأنفسهم، لم يحتملوا توزيع أرض قبيلتهم إلى الأجانب، وبالتالي بدأوا يلجأون إلى تخويف وإرهاب المزارعين الشماليين الوافدين واستعمال العنف وحتى القتل أحياناZ. وهكذا زرع الاستعمار البريطاني في منطقة كسلا أعوانه.

ذكر بول أيضا أن عدد المزارعين الهدندوة بلغ عام 26/1927م، 6380 وعام 30/1931م، 11500 وعام 50/1951م، 16020. أما البجه الآخرين فبلغ عددهم عام 26/1927م، 6320 وعام 30/1931م، 7880 وعام 50/1951م، 2480. وبلغ عدد الوافدين من شماليين وغيرهم عام 26/1927م، 8410 وعام 30/1931م، 7410 وعام 50/951 5120.

فوائد للحكومة وأضرار للبجه

واتسعت الرقع المزروعة وأمكن التحكم نوعا ما في نهر القاش. وشهدت المنطقة نسبة طفيفة من حياة الاستقرار، حيث قامت القرى وانتعشت الحياة الاقتصادية وقامت الحكومة الاستعمارية بربط مدينة كسلا بميناء بورتسودان بواسطة خط حديدي حتى تستطيع تصدير القطن والاستفادة من عائداته من العملات الأجنبية ومن خامه في تمويل مصانعها في لانكشير. ولقد بلغت إيرادات مؤسسة دلتا القاش الزراعية للعام 81/1982م نصف مليون جنيه سوداني.

ولم يستفد البجه من هذا المشروع ولا مما تبعه من فتح محدود لمدارس لأبناء الموظفين الشماليين ودواوين حكومية لتوظيفهم. وأمام هجرات الوافدين المكثفة للمنطقة ونزع الأراضي من البجه لأجل الزراعة أُجبر البجه على النزوح بعيدا بحثاً عن مراع جديدة لحيواناتهم دون جدوى. الحل عندنا هو إعادة الأرض لأصحابها وتحويلها إلى مراع.

جاء في كتاب Xكفاح البجهZ للمناضل الأستاذ محمد دين أحمد اسماعيل البجاوي عن مشاكل مزارعي دلتا القاش ما يلي: (أما أراضي القاش التي تقع تحت إدارة تلك الشركة الأجنبية الاحتكارية، التي تسخر المزارعين من الأهالي لفائدتها الخاصة ــ كانوا رعاة أصحاب أرض قبل قدوم الشركة التي استولت على أراضيهم وحولتهم إلى عمال زراعيين مؤقتين يلبون احتياجاتها الاستغلالية ــ ولا تكلف نفسها بفتح المدارس لأبناء المزارعين، ولا تهتم بحياة المزارعين سواء من الناحية الصحية أو الاجتماعية، فهي تتنكر لكل هذه الفوائد التي من واجبها تقديمها للمزارعين، كما أن واجبها يفرض عليها أن تساهم وتشارك في إصلاح وتقدم هؤلاء الذين يخدمون في مشروعها، كما تفعل شركة الجزيرة قبل التأميم وبعد التأميم، والذين يخدمون تحت هذه الشركة لا يمتازون عن غيرهم من البؤساء والأشقياء والمظلومين من مزارعي توكر إلا في بعض الأشياء التافهة. أما الحركة التي قام بها إتحاد المزارعين والتي لا زال يمارسها، فهي في حد ذاتها برهاناً قاطعاً ودليلاً كافياً لتأييد حجتنا كما وأنه قد كشف كثيراً من المعلومات المخفية عن هذه الشركة وظلمها الفاحش لفئة المزارعين الذين تتكون أغلبيتهم الساحقة من قبيلة الهدندوة ــ أصحاب الأرض ــ التي لا زالت تخدم تحت رآية هذا النظام الاستغلالي، ا. هـ.).

المساحة والنظام الزراعي

وتبلغ المساحة الكلية لدلتا نهر القاش حوالى 700 ألف فدان خطط منها حوالى 250 ألف فدان وهى الجزء المستثمر حاليا في شكل دورة ثلاثية، ويبلغ ما يروى منها سنويا 70 ألف فدان ويزرع نصفها أو ما يقاربه بنبات الخروع الذي جلب للعمال الزراعيين من قبائل البجه أمراض الحساسية والربو. ويزرع باقي المساحة ذرة، ويقوم بفلاحة الأرض حوالى 10 آلاف عامل زراعي في نظام شبيه بالسخرة. تقدر المساحة التي تزرع في المتوسط بحوالى 75 ألف فدان. وهناك خطة (2003م) لإعادة تأهيل المشروع ستزيد المساحة المزروعة إلى (160) ألف فدان، بالإضافة إلى مساحة (400) ألف فدان صالحة للزراعة خارج الدورة.

ويذهب نصيب المزارع الذي يبلغ 75% في الحساب المشترك والمنصرفات التي تفرض علىه مثل نظافة الأرض من الشجيرات، وقيمة البذور، وحراسة المحصول من تعدي الحيوانات وقيمة جوالات الخيش وقلع سيقان الخروع ونظافة الأرض من بقاياه وتقشير المحصول وترحيله بالسكة الحديد، والتخزين بالميناء، والتأمين وصيانة الجسور واللقيط والسلفيات الزراعية، ونسبة للمبالغة في تقدير هذه المنصرفات، التي تذهب مرتبات ومخصصات للموظفين الشماليين، فإن المزارع يخرج في نهاية الموسم بمبلغ زهيد جدا هذا إذا لم يكن مطالباً.

من مشاكل المشروع

إن مشروع القاش الزراعي يواجه مشاكل عديدة منها ضيق الرقعة التي تروى سنوياً، والتفاوت بين المزارعين في الانتاج وبدائية وسائل الانتاج وكثافة السكان مقارنة مع الإمكانات الزراعية وتكاثر الحيوان في الدلتا الضيقة وكثافة الحشائش مما يضعف الانتاج وفي السنوات الأخيرة تعرض سد نهر القاش إلى الإنهيار وألحق أضرارا بسكان جنوب كسلا.

إن زراعة القطن والخروع في منطقة القاش أثبتت فشلها اقتصاديا واجتماعيا فالعائد المادي ضعيف ولم يحقق المشروع الهدف منه كمشروع لتوطين الرحل.

وبما أننا نعيش في زمن قلّ فيه الانتاج العالمي من منتجات الحيوان وكثر الطلب علىها فلا أكثر من أن يحوّل المشروع لتعاونيات وتقام فيه مزارع مختلطة لتربية المواشي ومنتجاتها.

لقد تم إنشاء مشروع القاش ظاهرا من أجل استقرار الرحل وباطنا من أجل مد خزائن حكومات الخرطوم بالعملات الأجنبية. وكان يعيش في منطقة المشروع حوالى 70% من قبيلة الهدندوة. وبعد أكثر من نصف قرن إتضح جلياً أن المشروع لم يستوف أغراضه الأساسية الظاهرة أو الباطنة وظهر هذا واضحا عند إدخال الخروع بدلا عن القطن وكان الخروع وبالا على المزارعين البجه بعائده الضعيف الذي زادهم فقرا على فقر بالإضافة إلى ماجلبه لهم من أمراض. وتوقفت زراعة الخروع العام 19883 لتحل محله الذرة.

مراحل المشروع والخروع

وفي دراسة قامت بها مصلحة التنمية الريفية عام 1967م ظهر أن 44% من المزارعين لا يستفيدون من المشروع. واتضح أن من أسباب الفشل الجزئي للمشروع منع المزارعين من الجمع بين حيواناتهم والزراعة وكان يفترض أن يكون البديل للمزارعين الذين كانوا رعاة.

المساحة الاجمالية القابلة للزراعة هي 700 الف فدان. وانشىء المشروع عام 1926م بواسطة شركة كسلا للأقطان. وأدى انخفاض الفيضانات المتكرر وانخفاض أسعار القطن إلى انسحاب الشركة من المشروع عام 1928م. واستلمت الحكومة المشروع بهدف انتاج القطن والذرة والموارد الرعوية للرحل. ورفعت الحكومة نصيب البجه من الحيازات من 23% إلى 75% (87% منها للهدندوة) وقسمت النسبة المتبقية إلى الوافدين من شمال السودان وغرب افريقيا. في عام 1967 حلت مؤسسة دلتا القاش محل مجلس إدارة القاش لتحقيق أهداف فنية محضة هي تحسين الأداء والانتاجية.

وقد اعتبرت التقلبات في الفيضانات والأطماء، وسوء الإدارة مسؤولة عن التدهور المستمر في المساحة المزروعة التي تتراوح بين 40 ألف و 60 ألف فدان (20% من المساحة المخططه للزراعة). وفي عام 1969م توقفت زراعة القطن لتحل محلها زراعة الخروع كمحصول رئيسي. وبالرغم من أن الخروع كان مجزياً اقتصادياً إلا أن البجه لم يهتموا بزراعته على وجه الخصوص نسبة لافتقارهم للمعرفة به، وبسبب غياب الإرشاد الزراعي والأمراض التي سببها لهم، ولعل السبب الأكثر أهمية هو أنه لا يوفر لهم أو لحيواناتهم الغذاء. وهكذا توقفت زراعة الخروع عام 1983م واستبدل بالذرة.

عندما خصصت الأرض للبجه كان هناك 13500 حائزاً في المشروع. وعندما بدأت زراعة الذرة ارتفع العدد إلى 36 ألف حائز (عام 1993م) هناك 54 ألف حائز مسجل مما يعني أن متوسط الحيازة قد تراجع إلى ما دون الفدان الواحد. وفي الواقع فإنه هناك تفاوت هائل في الحيازات وحجم القطع المزروعة بالفعل.

وبالرغم من الاعتراف بحقوق البجه في أراضي القاش، كما تدل نسب الحيازات المخصصة لهم، إلا أن كل الحقوق في المناطق المروية بواسطة النهر تعود ملكيتها لحكومة الخرطوم ممثلة في دلتا القاش التي يلتزم الحائزون بتعليماتها. وفي مارس عام 1993م، أصبح مشروع القاش يقع تحت مسؤولية حكومة الولاية الشرقية بدلاً من حكومة الخرطوم (وهذا شكلياً ولكن استمرت سيطرة حكومة الخرطوم عليه ومنحها لحيازات لمستثمرين أجانب عن طريق الفساد والرشوة مما دفع أحد ابناء البجه إلى رفع دعوى ضد السلطات). وقبل هذا مباشرة اتخذت الحكومة المركزية في عام 1992م قراراً بخصخصة المشروع معللة ذلك بانخفاض الناتج الزراعي واهدار المياه المرتفع في المشروع. وطبقاً لمسؤولي الحكومة في كسلا، لم تشرك حكومة الولاية الشرقية أو حتى تستشار في تلك الخطوة والتي تم طبخها بين حكومة الجبهة المركزية ومستثمري القطاع الخاص عن طريق الرشوة. ومؤخراً شكلت حكومة الولاية لجنة لإعادة تأهيل دلتا القاش بهدف توطين الرحل (أي العودة إلى الموقف الرسمي السابق وزيادة الرقعة الزراعية المزروعة إلى 400 ألف فدان (100%)، وادخال الحيوانات في الدورة الزراعية بتوفير أراضي إضافية للحائزين في المساحة غير المروية بعد توزيع الأراضي، وتوفير الخدمات البيطرية، وتشجيع الصناعات المنزلية الصغيرة، وادخال مستويات أعلى من الميكنة في المشروع، وتشجيع وترويج الاستثمار الخاص في المشروع.

إنه على الرغم من الاعتراف المعلن بحقوق البجه في المشروع، إلا أن هذا الإعلان لا ينعكس في وجودهم في المشروع أو استفادتهم الاقتصادية منه بسبب عمليات التسليف الربوي والتقليص المنتظم في المساحة المزروعة. ويدير مهاجرو غرب افريقيا14% من الحيازات ويشاركون في محاصيل 40% من أرض المشروع (من البجه الغائبين) رغم أن البجه يملكون 75% من الحيازات، وكذلك نجد معظم البجه الآن من العاملين بأجر في المشروع، وهم ممن فقدوا ثروتهم الحيوانية أثناء آخر جفاف (1984) وهم يهاجرون عادة بعد الحصاد حسبما أفاد مسؤولون في وزارة الزراعة بالولاية.

يمكن ارجاع نصيب البجه المنخفض من Xالفوائد الحقيقيةZ لمشروع إلى فساد حكومات الخرطوم التي لم تهتم باجراء دراسة اجتماعية في المنطقة قبل البدء، في المشروع وفشل المخططون في استيعاب حيوانات البجه الرعاة في المشروع بالإضافة إلى عدم توفير المساعدات الفنية من الدولة. كذلك يمكن أيضاً إعتبار توزيع الأرض بواسطة القرعة عنصراً إضافياً لفشل المشروع حيث يحصل البعض على أراضي فقيرة. وتدخل الوساطة والمحسوبية والرشوة لتلعب دوراً في توزيع الحيازات.

أضرار الاستثمار الفاسد

كانت مساحة الأرض المخصصة لمستثمري القطاع الخاص من غير البجه في 991/1992م ألف فدان، قيل للمزارعين كذباً أن معظمها يقع خارج المساحة المروية. وفي موسم 1992/1993م إرتفعت هذه المساحة عن طريق فساد حكومة الخرطوم الشمالية إلى 30 ألف فدان، وقع معظمها داخل المساحة المروية حيث انتزعت من البجه أصحاب الأرض. نتيجة لذلك تراجع متوسط الحيازة إلى ما دون الفدان الواحد، مما يجعلها مساحة غير مجدية اقتصادياً وتدفع البجه بعيداً عن المشروع. وأدى هذا إلى ارتفاع أسعار الأرض Xالرسوم السنويةZ من 6 جنيهات للفدان في السبعينات إلى 650 جنيها في 1992م وإلى 2000م جنيهاً في ميزانية 1993م. وكذلك توقفت الدورة الزراعية في المساحة المروية وأصبحت كل هذه المساحة المروية تزرع سنوياً. تدرس الولاية تخصيص المؤسسة (أغسطس 1999م). في فبراير العام 2000م قدمت بلان سودان عوناً قدره 18 مليون دينار لتقويم مجرى القاش.

قلل توسع الاستثمار الخاص في المساحات غير المروية أيضاً مساحة الأرض المتاحة لرعي حيوانات البجه مما هدد بدوره المساحات المروية. وأمام خطر تجويع الحيوانات اضطر الرعاة في عام 1992م إلى الرعي في بعض أراضي المستثمرين الأجانب. وتمنع الحيوانات حالياً من دخول المنطقة المروية في المشروع في الفترة بين يونيو ونوفمبر. ويسبب الرحل عادة تأخيراً كبيرا في تحضير الأرض وزراعتها في المشروع، حيث يضطرون أمام ضيق مساحات المراعي إلى البقاء قريبا من المشروع معتمدين على بيع فوائض الزراعة في القضارف بينما ينتظرون نمو الحشائش بعد بداية موسم الخريف. وبسبب التأخر في الزراعة تدنت انتاجية المحصول.

يلجأ القاطنون في المشروع إلى مصادر دخل ثانوية لتكملة دخولهم ولتعويض الفاقد في الانتاج الزراعي. ويستغل الشماليون حاجة المزارعين للسلفيات فيرفعون نسبة الفائدة الربوية. وحصل مهاجرو غرب أفريقيا على المزيد من خلال اقتسام المحصول مع الملاك البجه الغائبين. ويستفيد بعض أصحاب الحيوانات من البجه من الأرض في رعي حيواناتهم، بينما يتحول من لا يملكون أرض من البجه إلى مهجرين وعمال موسميين بأجر، أو يتجهون لانتاج الفحم النباتي الذي يشجع ويسوق من قبل التجار الشماليين الذين يساهمون بإغراءتهم المادية في استغلال حاجة البجه للمال ومن ثم تدمير البيئة.

وعن تدهور مشروع القاش كتب الأستاذ عبد الرحمن محمد الشيخ في صحيفة الرأي العام في شهر يونيو 1999م ما  نلخصه في يلي: مشروع القاش الذي كان يعد من أعرق المشاريع الزراعية وأكثرها ثراءً في (السودان) وكان قِبلة الراغبين في الثراء والعمل من الداخل والخارج، أصيب بتدهور كبير شمل كل مناحي الحياة والخدمات في المنطقة. وإنهارت أنابيب المياه وخطوط الهاتف والمدارس والمستشفيات وحتى المرافق الحكومية، وزالت قرى من وجه البسيطة ورجع أهلها لحياة الفقر والجهل والمرض في البداوة التي بلا مواشي ... وكان أهل القاش يزرعون القطن الذي يدر عليهم اليسير من النقود إلى جانب ما يربونه من حيوانات والتي تمثل الجزء الأكبر من دخولهم، وقد حافظت الحكومة البريطانية على هذا النمط المعاشي المختلط، وذلك بصيانة المشروع. وظهر التردي جلياً في المشروع في عهد مايو المباد حيث التخبط بين الاشتراكية والحساب المشترك الذي أفقد المزارعين روح المنافسة والمحصول النقدي وأعلاف الحيوانات. ويموت سكان المنطقة من العطش وغياب الخدمات الصحية. وفي نفس الوقت نرى جيشاً من الموظفين الوافدين يملأون المكاتب الوثيرة ويتقاضون المرتبات الكبيرة ويسكنون في القصور الفخمة ويقودون السيارات الفارهة وكل هذا من عرق البجه التعساء ومحلياتهم التي تفرض كل يوم أتاوات جديدة لتوفر مرتبات ومخصصات موظفي المحليات التي فشلت حتى في جلب مياه الشرب أبسط مقومات الحياة! .... ما فائدة هذه الدروع البشرية من الموظفين المرفهين في محافظة مفلسة أغلقت فيها المدارس أبوابها، بعد أن لم تسجل خلال خمس سنوات متعاقبة مضت أي نجاح للقبول في المدارس الثانوية، هذا لأن المعلمين لا يتقاضون مرتباتهم، ولأن التلاميذ بدرجة من الفقر لا تمكنهم من تلبية أبسط متطلبات الدراسة ... في الماضي كان يدير مجلس ريفي أروما ضابط إداري واحد، يساعده رجال الإدارة الأهلية، وتمتد سلطاته من سنكات وحتى قوز رجب وبالرغم من هذا لم تكن توجد هناك مشكلة واحدة. إن هذه المحافظات والولايات الوهمية هي لخداع البجه ليتولوا إداراتها وتقول لهم الحكومة الآن أنتم تحكمون أهلكم وبلادكم، فماذا تريدون أكثر من هذا? وكأن المشكلة هي وظائف وولايات ومحافظات مفلسة بينما يستأثر الشماليون بحكم البلاد كلها ويهيمنون على كل شيء من ثروات البجه وغيرها ويحرمون البجه من أبسط مقومات الحياة، إن المشكلة ليست هكذا.