دور الـجـيــش

الجيوش في أفريقيا

(60) يعد دور الجيوش في القارة الأفريقية ذا أهمية خاصة. ففي ظل الاستعمار لم تكن هذه الجيوش مضمونة تماماً للامبرياليين. بيد أنه من الناحية الجوهرية مهما بلغت روح الثورة لدى بعض أفراد المستويات القاعدية في فترات الاضطراب، فإن هذه الجيوش قد تشربت تماما بالروح الاستعمارية، واعتادت أن يعهد اليها بسحق الثورات المناضلة ضد الاستعمار، وأن تطلق النار على المتظاهرين والمضربين، وأن تؤدي العمل القذر للامبرياليين.

وفي الفترة التي أعقبت عام 1945 م، وبخاصة خلال السنوات العشر التالية، اتخذت الدول الغربية خطوات خاصة لمحاولة التأثير في الجيوش الأفريقية، ولاحتضان ورعاية القوات المسلحة، وبخاصة الضباط الذين يمكن أن يتعاونوا مع الامبريالية. وقد اتجهت أغلبية الدول الأفريقية المستقلة (مثل السودان) إلى ارسال ضباطها للتدرب في المدارس العسكرية بالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية، وإلى الحصول على حاجتها من المدربين من هذه الدول.

وبصرف النظر عن الجوانب العسكرية لهذا التدريب، الذي يوجه بحيث يتلاءم مع الأهداف الاستراتيجية للدول الغربية فيما يتعلق بالصراعات المقبلة مع البلاد الأخرى وكذلك بقمع حركات التحرر الوطني، فإن الضباط يتلقون في خلال مقرراتهم الدراسية تدريبا ايديولوجيا معيناً وصياغة ايديولوجية خاصة، يجعلان منهم مادة أكثر استعدادا لاستخدامها لصالح مناورات الاستعمار الجديد التي تقوم بها الدول الغربية، ففي ساندهيرست وكمبرلى ببريطانيا، وسان سوير بفرنسا، وفورت براغ وغيرها من الاكاديميات العسكرية في الولايات المتحدة تتاح الفرصة للامبرياليين لإقامة علاقات شخصية مع القادة العسكريين أو الزعماء المقبلين للدول الجديدة، وبهذه الطريقة يكون باستطاعتهم فرز الخراف من الماعز، واختيار من هم أكثر ميلاً للفساد، ومن هم أكثر مرونة وألين عريكة وليس من قبيل المصادفة أنه في معظم الحالات كانت المجموعات العسكرية الرجعية، التي وصلت إلى السلطة في دول افريقية Xمثل (السودان) حيث درس كل من جعفر نميري وعمر البشير في الولايات المتحدة الأمريكية لنيل شهادة الماجستير في العلوم العسكريةZ في السنوات الأخيرة، تتكون أساسا من أفراد تدربوا في الأكاديميات العسكرية الغربية.

وعندما ينتهي تدريب هؤلاء الضباط يظلون في بلادهم على صلة بالنفوذ الغربي من خلال الخبراء ومدربي الجيوش وغيرهم ممن يرسلون إلى الدول الأفريقية الجديدة كجزء من مخططات المعونة الفنية والإتفاقيات العسكرية والأحلاف... إلخ.

وتفىد التقارير بأن هناك أعدادا هائلة من العسكريين الفرنسيين والبريطانيين والأمريكان، يعملون كخبراء عسكريين في بعض الدول الأفريقية، التي تتجه جيوشها إلى الإحتفاظ بنكهتها الاستعمارية، وبخبرائها الأجانب، وبعلاقاتها بالغرب أطول أمدا من إتجاه الإدارات التي تقوم بالخدمات المدنية العامة.

وتمارس الدول الغربية نفوذها أيضا بتواجد قواتها في بعض البلاد الأفريقية وإقامة الأحلاف العسكرية واستخدام القواعد والتسهيلات الأخرى من مطارات وموانئ.

ولا يمكن القول بأن الضباط الذين تلقوا تدريبهم في الغرب فاسدون جميعا، ولا بأنهم مستعدون جميعا لأن يكونوا مخالب قط للاستعمار الجديد، بيد أنه يوجد من الضباط الأفارقة ما يكفي لإشباع أغراض أولئك الذين يسعون كل الوقت إلى الإبقاء على الدول الأفريقية معلقة بأذيال الامبريالية. وبالرغم من أن الضباط في الدول الأفريقية، من وجهة النظر الطبقية من أصل اجتماعي مختلط فإنهم في دولة مثل (السودان) ينتمي معظمهم إلى الطبقة المتوسطة التي كونها الاستعمار في العاصمة بينما ترجع فئة منهم إلى قبائل الشمال التي تحالفت منذ زمن بعيد مع الاستعمار بمختلف جنسياته وهكذا كونوا طبقة متميزة في (السودان) أما الضباط الذين يأتون من المناطق المتخلفة فهم قلة لا تذكر.

وتعد الجيوش نفسها بالمعايير الغربية، صغيرة الحجم بدرجة تدعو للرثاء، ولقد زاد حجم هذه الجيوش إلى حد ما منذ الاستقلال، بيد أنها ما زالت عند مستوى متواضع للغاية، بالإضافة إلى ذلك أن معظم الجيوش الأفريقية ضعيفة التسليح بدرجة كبيرة في البلاد الرجعية ومزودة بقوات جوية وبحرية محدودة.

إن هذه الجيوش، ولو أنها ضعيفة، تستطيع على الرغم من ذلك أن تلعب دورا رئيسيا في الدول الأفريقية ما دامت هي في أغلب الأحوال القوة الأكثر تنظيما - والوحيدة في بعض الأحيان - القادرة على اتخاذ إجراء حاسم بدعم من الأسلحة التي من أموال الشعب.

وفي عدد كبير من الدول الأفريقية خمد نشاط الأحزاب السياسية بعد نيل الاستقلال وتكالب زعماء الأحزاب على اقتسام الغنائم والتمتع بالامتيازات.

وفي مثل هذه الظروف يكون من السهل نسبيا على مجموعة صغيرة من الضباط تسيير رجالها إلى بضع نقاط رئيسية في العاصمة وتسلم السلطة من الزعماء السياسيين الذين يفتقرون إلى أي آلية أخرى للوقوف في وجههم مثلما حدث في (السودان) في 17 نوفمبر 1958م و 25 مايو 1969م و 29 يونيو 1989م.

إن عهد الانقلابات العسكرية في أفريقيا لم ينقض بعد بأية حال من الأحوال (1999) ويعد الوضع السياسي والاقتصادي في معظم الدول الأفريقية بعيدا عن الاستقرار إلى حد كبير، كما أن مساعي الامبرياليين، التي تصطدم بالسخط الذي يزداد تفشيا بين الجماهير، يمكن أن تسفر عن مزيد من المواقف الدقيقة الحرجة في عدد من البلاد كما حدث في الكونغو ونيجيريا والنيجر وزائير وسيراليون.

العسكر في (السودان) 

حتى يضمن الاستعمار الإنجليزي ولاء الضباط له بعد أن تمرد عليه الضباط الذين تخرجوا من الكلية الحربية في مصر - قام بإنشاء كلية حربية في (السودان) الهدف منها تخريج ضباط سودانيين يدينون بالولاء للمستعمر البريطاني ويكونون أداة طيعة في يده لضرب حركة الجماهير.

وجاء في تقرير الكولونيل جاكسون - (61) إن الأسباب الكامنة لتمرد الاورطة (14) السودانية، في عبارات لم تترك شكا في أنه لتجنب التمرد في المستقبل كان من اللازم والمهم لحكومة (السودان) الاستعمارية أن تقوم بتخريج ضباط من السودانيين من مدرستها الحربية أو من الصف - ومن ثم أسست المدرسة الحربية بالخرطوم في عام 1905م. ودخل المدرسة عدد من الطلاب معظمهم من أصل زنجيbومن قبيلة الشايقية وأبناء أم درمان وترتب على ذلكbأن طبقة متوسطة من الضباط بدأت تظهر في أفق (السودان) منذ عام 1908م.

وهذه الطبقة المتوسطة الجديدة قدر لها أن تلعب دورا هاما في تاريخ (السودان) الحديث - فإذا استثنينا حركة الضباط في عام 1924م والتي قادها ضد الإنجليز ضابط من قبيلة الدينكا في جنوب (السودان) هو علي عبداللطيف - فإن كل الحركات العسكرية الأخرى كانت تمثل طموح طبقة الضباط الانتهازيين في الاستيلاء على الحكم والسير على الخط الذي رسمه الاستعمار. (راجع كتاب السيد الصادق المهدي Xالهجرة الثانيةZ).

وقد كان طموح الضباط في عهد الاستعمار البريطاني يصور أنانيتهم وأطماعهم الانتهازية التي تنحصر في الرتب والامتيازات دون ما تفكير في معاناة الجماهير.

(62) (وبعد رحيل الجيش المصري عام 1924م من (السودان) أصيب الضباط السودانيون بقوة دفاع (السودان) بخيبة أمل في الترقيات إلى الرتب التي خلت لدى رحيل الضباط المصريين. ولم يقنعوا بالتطلعات المرسومة أمامهم التي لا تساوي كثيرا إن هي قورنت بوضعهم السابق في الجيش المصري أو بوضع أقرانهم الذين لم يتم استيعابهم في قوة دفاع (السودان) - فذهبوا إلى مصر للانخراط بالجيش).

هكذا نرى هذه الطبقة الانتهازية فضلت العمل كمرتزقة في الجيش المصري في سبيل بعض المكاسب المادية.

واعتقد الضباط وبوجه خاص الجيل الصاعد منهم في صدق بأنه إن ساهمت مصر في إدارة حكم البلاد، فإن مجالا عظيما من الترقي يمكن أن يكون مفتوحاً أمامهم.

وهكذا نرى (63) أن افتتاح المدرسة الحربية عام 1905م لتخريج ضباط من السودانيين قد رؤي منذ تمرد الجيش عام 1901م - بأن تدريب ضباط للاورطة السودانية التي كانت جزءاً من الجيش المصري أمر سديد - فحتى ذلك الوقت كانت الفئة القليلة من الضباط السودانيين قد دربوا بمصر. وقد اعتقد بأنهم تأثروا بتيارات الحركة الوطنية المصرية ولقد كانت هذه المدرسة أول مدرسة من نوعها أسست في المستعمرات الأفريقية لبريطانيا - وكان الهدف الظاهر لتأسيس هذه المدرسة هو تأكيد السياسة المعلنة بأن أية وظيفة يعتقد أن السودانيين قادرون على شغلها يجب ألا يسد الطريق أمامهم لولوجها - أما الأهداف الخفية لهذه المدرسة فهي تكوين طبقة من الضباط السودانيين تحل محل الضباط البريطانيين الذين دعت الحاجة لنقلهم للعمل في أجزاء أخرى من الامبراطورية البريطانية مثل جنوب افريقيا - كما أن وجود الضباط البريطانيين في (السودان) يكلف بريطانيا نفقات طائلة ولهذا لا بد من وجود طبقة من الضباط السودانيين تقوم بأداء الدور الذي كان يلعبه الضباط البريطانيون في قمع حركات الجماهير بعد أن يكونوا قد تشبعوا بالأفكار الاستعمارية وتمت تنشئتهم في الكلية تحت أيدي مدربين استعماريين غرسوا فيهم الولاء والطاعة للاستعمار.

لقد كان اختيار الضباط يتم من بين أبناء الطبقة المتوسطة في أم درمان والتي تحالفت مع الاستعمار في انتظار أن ترثه بالإضافة إلى بعض قبائل الشمال التي خدمت الاستعمار منذ عهد بعيد أما الجنود فهم من أبناء المناطق المتخلفة - ولقد استفاد الاستعمار ومن بعده الحكومات الحزبية والعسكرية من التناقض العرقي في (السودان) فكانت تضرب أبناء الجنوب بجنود من كردفان ودارفور وجماهير البجه بجنود من الشماليين والنوبة كذلك قام نظام الإنقاذ بتشكيل وحدات عسكرية على أساس عرقي وقبلي وقام بضرب قبائل البجه ببعضها البعض وهكذا... إلخ.

ان معظم ضباط الجيش السوداني والذين يشكلون الطبقة المتوسطة وتربوا على يد الاستعمار، ثارت أطماعهم بعد خروج الاستعمار فانقضوا على السلطة الحزبية مثلما حدث في 17 نوفمبر 1958م- أما الضباط الذين استولوا على الحكم في 25 مايو 1969 و29 يونيو 1989 من أبناء الشمال، الذين نشأ آباؤهم تحت مظلة الاستعمار، واقتنعت هذه المجموعة بأنها الوريث الشرعي للاستعمار وأنها أحق بحكم (السودان) وتسيير كل أقاليمه المهمشة حسب السياسة الامبريالية التي تشبعت بها هذه الحفنة من الضباط - وأفسدت هذه الطبقة في الحياة السياسية والاقتصادية واستغلت موارد الأقاليم المهمشة في (السودان) وفرضت نظاما بوليسيا متسلطا اتسم بالبطش والظلم.

وأتاحت هذه الطغمة نقاط وثوب وقواعد وتسهيلات جوية وبحرية للجيوش الامبريالية هذا بالإضافة إلى وجود جيوش أجنبية في البلاد وخبراء عسكريين ومناورات مشتركة القصد منها ارهاب الجماهير الثورية.

وصار دور القوات المسلحة محصوراً في القضاء على الانتفاضات الجماهيرية وحماية الأنظمة الشمولية والحزبية وصارت تقوم بالدور الذي يفترض أن تلعبه الشرطة السرية ولكن بقساوة أشد وضراوة أعنف خاصة في ظل الأحكام العرفىة التي تطبق بصورة تكاد تكون دائمة، وما يحدث في مثل هذه الظروف من تجاوزات لأجهزة القمع وقتل للأبرياء مثلما يحدث في جنوب (السودان) وشرقه ودارفور وجبال النوبة وما حدث ببلاد البجه من اطلاق النار وقتل ثلاثة عشر مواطنا من قبيلة الهدندوة قرب مدينة كسلا في شهر أبريل عام 1984م، وقيام نظام الإنقاذ بقصف مناطق البجه في همشكوريب بالطائرات والمدافع في يونيو 1999م. وفي يونيو العام 2003م قامت طائرات الإنقاذ الحربية بقصف مناطق ثوار دارفور في جبل مرة  بالأسلحة البايلوجية فردوا علىها بتدمير سبع طائرات وأسر القائد.

الإنتفاضة ــ الديمقراطية ــ الإنقاذ

في أواخر أبريل عام 1985م وصل الحكم الدكتاتوري العسكري، بقيادة جعفر النميري إلى نهايته. فلقد استنفد أغراضه بتحقيق جميع الأهداف الإمبريالية وانكشفت عمالته في الداخل والخارج وكانت قضية الفلاشا هي الضربة القاضية. وهبت جماهير الشعب في إنتفاضة أطاحت به. وبحكم أن الجيش هو المؤسسة الأكثر تنظيماً، فلقد استطاع كبار الضباط الاستيلاء على السلطة لحماية المكاسب غير المشروعة التي جنوها في عهد الدكتاتورية ولتفويت الفرصة على الشعب وصغار الضباط الذين استعدوا للتحرك. كذلك استطاع الموالون منهم لحزب الجبهة القومية حماية أنفسهم ضد المساءلة من تورطهم في حكم الدكتاتورية خاصة ما عرف بقوانين سبتمبر المسيئة للإسلام. وبعد الفترة الإنتقالية التي استمرت عاماً واحداً أعادت الديمقراطية الأحزاب إلى سدة الحكم. وعادت الأحزاب لسيرتها الأولى في التهاون والتنافس حول المناصب والمنافع، وبالرغم من أن القاعدة الكبرى لأكبر حزب من حيث الأصوات (700،1 ألف صوت) وثاني أكبر حزب من حيث النواب، كانت من البجه (25 نائباً)، إلا أن نصيبهم من السلطة كان هامشياً، وظلوا كما كانوا دائماً مهمشين ومستَغَلين. وفي نهاية شهر يونيو 1989م، تحركت مجموعة صغيرة مسلحة من المدنيين من أعضاء حزب الجبهة القومية تساندهم مجموعة من الضباط الموالين لها واستولت على السلطة. هكذا بدأ حكم الجبهة القومية الذي أطلقت عليه Xثورة الإنقاذZ. وعن طريق البطش والقمع استمر حكم الجبهة، حيث نهب أعضاؤها كل موارد البلاد، حتى عشش الفلاتة، أفقر أحياء الخرطوم، لم ينج منهم فشردوا سكانه وباعوا أراضيه. وعلى هذا المعيار في النهب المقنن إنهارت البلاد وضاقت سبل العيش بالناس ووصل سعر الدولار إلى أكثر من ألف جنيه (1998م) في حين كان سعره قبل حكم الجبهة العسكري 12 جنيهاً ليصل إلى 2600 جنيه (الآن في شهر يوليو 2003م). وسيطرت الجبهة على كل مصادر الاقتصاد والتجارة واحتكر أتباعها  الخدمة المدنية والمؤسسات التعليمية والعسكرية. وشمل الدمار والفساد كل المجالات واستشرى القتل واستعر في الجنوب والغرب وجبال النوبة والشرق وبين قبائل (السودان) كلها.

كرّس نظام الإنقاذ الجيش لحماية النظام واحتمى بدروع بشرية من الصبية فيما يسمى بالدفاع الشعبي بالإضافة إلى الاحتماء بالقبائل التي على خطوط التماس مع الجنوب أو التي على الحدود بحجة حماية المناطق من مسؤولية سكانها. كذلك قام نظام الإنقاذ بتسليح بعض القبائل وتحريضها على قبائل أخرى، وهذه السياسة كانت تطبقها أسرة حميد الدين التي كانت تحكم اليمن سابقاً، ويطلق عليها Xتخطيط القبائلZ وفيها تنهب القبائل بعضها البعض، ويتفرغ نظام الإنقاذ لنهب (السودان) كله.

الإنقاذ تحتمي بالبجه وتستغلهم

إضافة للمظالم التقليدية التي كانت تقوم بها حكومات الخرطوم في حق البجه، احتمت حكومة الإنقاذ بدروع بشرية من البجه على الحدود مع إريتريا في منطقة كسلا وجنوب توكر. فقد عملت الحكومة على تجنيد البجه من كافة قبائلهم لتستغلهم في الدفاع عنها بحجة الدفاع عن مناطقهم. وتعرض البجه لإفرازات الحرب من قتل وتشريد وزرعت الحكومة الألغام في مناطقهم، وتدمرت قراهم فنزحوا إلى أطراف المدن في العراء وفي أعشاش من الخيش والكرتون تفتك بهم الأمراض والجوع. ومنعت الحكومة إرسال المواد التموينية لمن لم ينزحوا من مناطقهم التي باتت تحت سيطرة المعارضة، بحجة أنها ستذهب للمعارضة، ومات خلق كثير من البني عامر. ولم تهتم الحكومة لا بأوضاع النازحين المعيشية ولا الصحية ولا الاجتماعية، وأصبح أطفالهم بلا مدارس بينما أبناء أركان الحكومة يدرسون في أمريكا وبريطانيا. وبالطبع لم تسأل الحكومة عن أسرى البني عامر الذين أخذوا من ديارهم في شهر مارس 1997م. وفي العام 1999م تحسنت العلاقات بين حكومة الإنقاذ وإريتريا، وعرضت الإنقاذ أن تتنازل عن المناطق الحدودية، ويتم منح قبيلة البني عامر الجنسيتين الإريترية والسودانية (رفضت إريتريا هذا الحل). هذا هو الجزاء الذي ناله البنو عامر جراء دفاعهم عن الإنقاذ علماً بأن عراب النظام السابق الدكتور الترابي اتهم البني عامر علناً حيث قال أنهم شكلوا طابوراً خامساً للقوات التي غزت جنوب توكر، ونورد هذا هنا للذين يتبعون الترابي علهم يرعووا إلا إذا كانت تربطهم به مصالح شخصية تطغى على مصلحة أهلهم. وعمدت الإنقاذ لإفقار البجه ثم استغلت حاجتهم لمصادر دخل يعيلون منها أسرهم (متبعة سياسة جوع كلبك يتبعك) فشكلت منهم كتائب لحماية المناطق الحدودية والطريق البري وخطوط نقل البترول من هجمات المعارضة التي تتركز هنا في مؤتمر البجه الجناح العسكري.

البجه ومشكلة الأقليات

برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة الأقليات الإثنية والدينية - واحتلت أخبارها حيزا كبيرا في وسائل الاعلام في كل أنحاء العالم. وهذا لا يعني أنها ظاهرة جديدة بل هي قديمة قدم الاستعمار. ولكن الجديد في الأمر هو انتشار وسائل الاعلام الحديثة التي استطاعت تغطية أخبار نشاطات هذه الأقليات.

ومع انحسار ظاهرة الاستعمار وتكوين الدول الجديدة المستقلة زادت عددية الأقليات. فالحدود في هذه الدول الجديدة لم يراع الاستعمار فىها الدول التي كانت مستقلة قبل غزوه وقام بدمجها في دول أخرى، مثل بلاد البجه، ولا الوحدة القومية لكل دولة. وانما تم رسم الحدود الجغرافىة على الخرائط فقط.

وتنتشر الأقليات بمشاكلها في كل شبر من الكرة الأرضية حطت أقدام الاستعمار أرجلها علىه. فنجد الأبورجينز في استراليا والتاميل في سري لانكا والسيخ والمنبوذين في الهند، والبانتيو في جنوب افريقيا (سابقاً)، والزنوج في جنوب (السودان) والبجه في شرقه والنوبة والفور والزغاوة والمساليت وغيرهم في غربه، والباسك في اسبانيا، والايرلنديين في المملكة المتحدة والأرمن في تركيا والأكراد في أسيا، والهنود الحمر في أمريكا، وأقليات كثيرة أخرى لا يمكن حصرها تناضل جميعا من أجل ايجاد وضع دستوري لها، أو استعادت استقلالها بتدويل قضيتها مثل تيمور الشرقية في سبتمبر عام 1999م، وهذا هو نفس وضع بلاد البجه التي تعتبر فيها المشكلة القومية إضافة، والأصل هو استعادة السيادة التي اغتصبها منها محمد علي باشا ومن جاء بعده حتى اليوم - وبعض هذه الأقليات استطاعت تدويل نزاعاتها مثل الدروز والمارونيين في لبنان، والمسلمين والوثنيين في تشاد والهوتو في رواندا وبوروندي والكونغو وغيرهم من الأقليات، حيث تدخلت الدول الكبرى في بعض هذه البلاد  في محاولة لتحجيم هذه النزاعات.

(66) مكونات الأقلية

(يستخدم علماء الاجتماع الآن اصطلاح (مجموع أقلية) ليصف بالضبط جماعات من الناس يشتركون في ثقافة وديانة محدودة أو بملامح طبيعية خاصة، وهم يتميزون (عن) و (من) الأفراد الآخرين في مجتمعهم بسبب هذه الصفات والذين ينظرون إلى أنفسهم في وقت ما كمنفصلين أو مضطهدين بسبب أنهم تلقوا هذه المعاملة.

وهكذا فمن المتطلبات لتكوين مجموعة أقلية، أن يشترك أفرادها في مزايا معينة، سواء كانت دينية أو ثقافىة أو لغوية أو تشريحية، تجعلهم منفصلين عن الآخرين ومن المتطلبات أيضا لتكوين الأقلية أن يكون أفرادها في منزلة سيئة في المجتمع. إنها عندما يعزل أو يحرم أفراد جماعة ذوي مزايا معينة من التمتع بتكافؤ الفرص سواء اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. والصفات الطبيعية أو الدينية أو الثقافية التي تميز جماعة أقلية، هي هامة فقط في مدى دورها كعلامات للشعور بالنقص وعدم المساواة. ولكن في كلا الحالتين فإن وجود جماعة أقلية يتضمن بالضرورة - وجود جماعة حاكمة تتمتع بمركز  اجتماعي أعلى ومزايا أعظم (مثل الجماعة الحاكمة في السودان).

وإن مشكلة الأقليات في قسم كبير منها مشكلة قوة. فالجماعة المتسلطة ستستخدم قوتها بقصد أو بشكل عادي لتكرس وجود الإمتيازات. بينما قد تحاول الأقلية المضطهدة أن تنال القوة كي تنهض بمركزها وتزيد في فرص إمكاناتها.

(محاولة الإخوة في جنوب (السودان) وجبال النوبة ودارفور ومؤتمر البجه الحصول على حقوقهم عن طريق الحل العسكري الذي قننه الفريق البشير العام 1991م.).

تحريف لفظ (العنصرية)

عمد البعض في (السودان) إلى استعمال كلمة عنصرية بصورة خبيثة تمكنهم من تحقيق مصالحهم ولإرهاب البجه وتشويه حركتهم القومية.. إن مقاومة البجه لاضطهادهم ومطالبتهم باحترام آدميتهم واقرار المساواة ليس عنصرية، ولا حرب عرقية يشنها البجه، وتطلُع البجه إلى تحرير بلادهم من السيطرة العنصرية ليس موقفا عنصريا من جانب البجه. إنه عنصرية من جانب الحكام لأنهم يغطون سيطرتهم بنعرة عنصرية تؤمن بتفوق قبائل الشمال، وحق هذه القبائل في استعباد البجه وامتلاك أرضهم لأنهم أكثر قدرة على تقدم البلاد ونفع السكان فىه.

إن هذا موقف عنصري... لأنه يخفي عملية استغلالية... لأنه يبرر اضطهاد واستغلال البجه بسبب إنتمائهم العرقي. ولكن تحرك البجه ضد السيطرة العنصرية ليست عنصرية ولا رجعية ولا حرب ألوان أو عروق، لأنها ذات محتوى تقدمي حضاري وهو التحرر من الاستغلال الذي يمارسه الحكام الأجانب.

تعريف الأقلية : (1)

من الصعوبة وضع تعريف محدد ثابت لأنواع الجماعات التي يفترض أنها أقليات.

وتختلف الأقليات حسب إختلاف المفاهيم التي تحكم اقصائها أو عزلتها. وتبعا لعلاقاتها بالجماعات المسيطرة في المجتمع الذي تعيش بداخله، وأيضا تبعا لمدى استجابتها للأوضاع القائمة في ذلك المجتمع. ولهذا فإن دراسة الأقليات الإثنية تختلف عند دراستها بإختلاف أسباب استبعادها نتيجة العرق أو الدين أو القومية أو الثقافة.

يعتبر البجه أقلية لأنهم ينفصلون عن بقية أفراد المجتمع نتيجة لخصائص عضوية وثقافىة ولغوية ويعيشون في المجتمع في ظل معاملة مختلفة وغير متساوية مع بقية أفراد المجتمع حيث يتعرضون للتفرقة وحيث توجد في المقابل جماعة مسيطرة ذات وضع اجتماعي أعلى وامتيازات مما أدى إلى حرمان البجه من الاشتراك الكامل في المجتمع.

هذا بالإضافة إلى أن كل مقومات الأقلية الأخرى تنطبق على البجه مثل العرق واللغة والثقافة والعددية السكانية إذ يمثلون 10% من جملة سكان (السودان) كما أن جبال البحر الأحمر  والصحراء ظلتا فاصلا جغرافىا بين البجه وغيرهم حتى إنشاء السكك الحديدية.

المفاهيم الخاصة بين الأكثرية والأقلية (69)

التـحــامـل 

إن التحامل ضد شعب البجه الذي تمارسه الفئة المسيطرة يهدف إلى تحقيق فرص انتهازية اقتصادية وسياسية. وواضح هذا في مجال التجارة حيث يسيطر الشماليون على (95%) منها وكذلك يسيطرون على كل المناصب السياسية حتى التي تخص بلاد البجه، وعلى العكس فإنه لا يوجد لا في الحكومة المركزية ولا الوزارات السيادية غير ثلاثة أشخاص من البجه والمحسوبين عليهم، وبالمقابل فإنه لا يوجد في الإقليم الشمالي أي شخص بجاوي واحد على أي مستوى من مستويات المسئولية. ولو حدث ذلك لأقاموا الدنيا ضده بينما سيطر الشماليون سيطرة تامة على مناصب السلطة والإدارة في بلاد البجه.

كذلك فإن مرجع هذا التحامل على البجه هو تفوقهم الحضاري في القرون الماضية، حيث كانت سواكن قصبة زاهرة للحضارة والتجارة والعلم بينما كان باقي (السودان) يرسف في البداوة والتخلف ومساكن الطين حتى في حاضرة (السودان).

ويقوم التحامل على البجه أيضا على العرق والأصل، إذ ينتشر اتجاه اجتماعي بين الفئة المسيطرة على الحكم باستغلال وحكم شعب البجه بأنهم جماعة وضيعة متخلفة حتى يمكن تبرير استغلال أفراد البجه واستغلال موارد أرضهم التي تتمثل في الذهب والمعادن الأخرى وموانيء  بورتسودان والأمير عثمان دقنه وبشائر والزراعة والموقع الاستراتيجي الدولي.

إن هذا التحامل القائم على العرق هو عملية ذات إتجاه اجتماعي لتسهيل خلق شكل خاص من أشكال الاستغلال والمعاملة السيئة.

ونتج عن هذا ما أشاعته الجماعة الشمالية المسيطرة من عزوف البجه عن التعلىم والعمل ووصمهم بالكسل Xكرر هذه الفرّية الفريق عمر البشير رئيس نظام الإنقاذ إبان زيارته لميناء بورتسودان أمام الجماهير عام 1994مZ، وما هذه إلا مبررات خبيثة تهدف للاستغلال الذي وضح في عدم التقدم في نشر التعلىم في بلاد البجه والتفرقة في أجور العمال. كذلك محاربة لغتي البجه وثقافاتهم ووصفها بالتخلف والهمجية بهدف القضاء عليها ومن ثم القضاء على قومية شعب البجه.

إن التحامل على شعب البجه هو إتجاه وميل عدواني وقد لا يتضمن عملا صريحا تجاه البجه إذا لم يكن هناك موقف يفرض ذلك، ولأن الاتجاهات الأخرى قد أنهت التعبيرات العلنية عن المواقف التي تظهر فىها كراهية الشماليين لشعب البجه، ويتم هذا التحامل بإخفاء المشاعر الحقيقية وإتهام البجه بين كل آونة وأخرى بالعنصرية.

إن اطلاق اسم (الإقليم الشرقي) على بلاد البجه بينما اطلق على أقاليم مثل كردفان ودارفور أسماءها التاريخية فىه إجحاف لحق البجه في الإحتفاظ باسمهم التاريخي. كما أنه يدل على قصد السلطة السيء في محاولاتها لمحو قومية البجه.

إن العلاقة بين شعب البجه والجماعة الشمالية المسيطرة هي علاقة صراع وتوتر. وتتصل هذه العلاقة اتصالا وثيقا بالحياة الاجتماعية وهي علاقة متنوعة وبالغة الأهمية. إن الجهود المبذولة من الفئات الحاكمة لتجنب شكل نماذج التحامل تؤدي إلى زيادة التحامل بسبب عدم اعترافها بوجود التحامل الذي هو واقع ملموس. وبما أن المجتمع في (السودان) مفتوح الطبقات حيث يأمل شعب البجه المحروم في تحسين أوضاعه. وحيث لدى الجماعة المسيطرة المخاوف إزاء تقدم شعب البجه مع شعورها في الوقت نفسه بحتمية هذا التقدم والإرتقاء نحو طبقات أعلى مركزا الذي أدى إلى حدوث الصراع القائم الآن.

التـفــرقــة 

تُعرّف التفرقة بأنها (المعاملة غير المتساوية لأفراد متكافئين) (والمفهوم الضمني في هذا المجال هو أن أفراد الأقلية تختلف معاملتهم عن معاملة الأكثرية بسبب خصائصهم كأقلية، وليس بسبب خصائص أخرى).

وما يدور في (السودان) من تفرقة عنصرية لشعب البجه يتضح في ممارسات الحياة اليومية، فهنالك التفرقة في الأجور بين العمال البجه وغيرهم، إذ يتقاضى العمال البجه أجورا أقل من رصفائهم من الشماليين، بالرغم من تطابق العمل وتطابق الكفاءات. كذلك فإن كل الحكومات التي تولت حكم (السودان) لم يتولى فىها أي بجاوي منصب دستوري أو رفىع المستوى بل اعتبروا رعية تابعة، حتى أن الوفود التي سافرت لبريطانيا ومصر لتقرير مصير (السودان) لم يمثل فىها شعب البجه. كما أننا نرى في مشروع الجزيرة لزراعة القطن أن هناك نسبة معينة من الأرباح ترصد للخدمات الاجتماعية والتعلىمية، مما جعل في الجزيرة أعلى نسبة من المدارس في (السودان) والخدمات الاجتماعية والصحية. وفي بلاد البجه حيث توجد مشاريع زراعية مثل القدمبلية والقاش وبركة لزراعة القطن والرهد وخشم القربة وغيرها التي تدر العملات الأجنبية للدولة تماما مثل مشروع الجزيرة لا نجد مثل هذه الخدمات ولا ترصد لها أية ميزانية - كذلك فإن الموانيء البحرية التي تدر إيرادات ضخمة للدولة لا ترصد الدولة أية نسبة من هذه الإيرادات لتطوير السكان البجه الذين يقومون بالأعمال الخطرة فىهم ولا توفر لهم أي ضمانات، كما أنها لا ترصد أية ميزانية للحفاظ على سلامة البيئة التي تلوثها الموانيء ومستودعاتها مما جلب للبجه وغيرهم أمراضاً لم تكم معروفة من قبل، بل المدرسة الوحيدة التي أقامتها سلطات الموانيء هي لأبناء الموظفىن والعمال الشماليين- إن التفرقة وهي عمل ضار ومؤذ أثرت على شعب البجه وجعلته غير مرتبط بالوضع القائم معنويا وماديا.

الاضطهاد أو التمييز العنصري  (70)

الاضطهاد يكون أساسا على جماعات وليس على أفراد، فالظلم الذي يقع على شعب البجه، والذي تمارسه الجماعة الحاكمة نشأ نتيجة للاضطهاد والتمييز العنصري الذي يحسه  الإنسان في معاملات الحياة اليومية حيث يعيش البجه في فقر وجهل ومرض في أرضهم بينما تستمتع بخيراتها الجماعة المسيطرة. ونتيجة للممارسات الطويلة من الاضطهاد، استطاع المستوطنون بما اتيح لهم من سلطة أيام الاستعمار الانجليزي وما بعده توطيد أنفسهم وأبناء جلدتهم ونبذوا شعب البجه. ومن أمثلة الاضطهاد ما قامت به (سلطتا مايو والإنقاذ) من تصفىة للمتعلمين والمتعلمات من البجه فشنت علىهم حملة عنصرية وفصلتهم من الوظائف الحكومية التي استحقوها بمؤهلاتهم وكفاياتهم وقدراتهم.

هناك أقليات إثنية أخرى في العالم مرت بما يمر به شعب البجه من ظلم واضطهاد، ولكنها استطاعت أن تستيقظ مما اعتبر نهضة ثقافىة وتحولا من مشاعر الإحساس بالنقص إلى الاعتزاز بالذاتية. وحينما تتحقق المساواة السياسية والاقتصادية، مثل جمهوريات الإتحاد السوفىتي سابقا، تتطور اليقظة حتى تأخذ الشكل الجمعي أو المتعدد. أما في حالة كبت التنوع الثقافي ومحاربة لغات الأقليات مثل ما يحدث لشعب البجه في (السودان) فإنه يجب الإتجاه إلى نموذج الاستقلال حيث يستطيع البجه الإحتفاظ بثقافتهم وتراثهم.

وتستعمل الجماعة الشمالية المسيطرة في (السودان) أسلوب القوة - معتقدة بتفوقها الثقافي - لفرض أسلوب حياتها على شعب البجه وبالتالي محو ثقافته. وهذا يعني أن يوافق البجه على التخلي عن السمات العرقية والثقافية التي تميزهم عن الجماعة المسيطرة بينما عمر ثقافة البجه أكثر من خمسة آلاف سنة مقابل خمسة قرون هي عمر الجماعة الشمالية المسيطرة في (السودان).

إن مطالبة شعب البجه بالاستقلال الثقافي والاقتصادى والسياسي بعد أن فشل في تحقيق وجوده على أساس النموذج الجمعى أو الامتصاص بصورة ودية وهو الحل الأمثل لتتويج النشاط المكثف لتحقيق الاستقلال الكامل ورفض التعدد الثقافي والاستغلال الاقتصادي.

(إن هناك تجارب مشتركة كافىة عبر أنحاء العالم توضح أن الشعوب المتنوعة الأجناس أو الأُصول - مثل (السودان) - تواجه بالضرورة مشاكل التحامل أو التفرقة داخل جماعاتها. وبالإضافة إلى ذلك فإن تقدم الجماعة تقدما فعالا يتطلب من فكرة الدولة القومية ذات المثل الأعلى الخاص بثقافتها الواحدة الموحدة، وضرورة تخلي الأكثرية عن مطالبها في السيادة الثقافية والتفوق. وفي المقابل على الأقليات أن تتخلى عن أملها في الانفصال السياسي والاقتصادي في كثير من أجزاء العالم وقد يتمكن التعدد الثقافي بعد سنوات من النجاح أن يقلل من التوتر والتفرقة ويجعل القلق والصراع بين الدول أقل حدة).

ولكن ما يحدث في (السودان) من الجماعة الشمالية المسيطرة هو تمسكها بفكرة الدولة القومية، بالرغم من وجود قوميات وثقافات متعددة، وتريد فرض ثقافتها التي لم تمضِ عليها خمسة قرون على ثقافات عريقة، كما أن الجماعة المسيطرة لا تريد أن تعترف بالبجه كأقلية، ولا تريد مشاركته لها في السيادة مما يدفعهم إلى المطالبة بالاستقلال السياسي والاقتصادي.

 

 

الحماية القانونية للأقليات 

إن التأكيد على الحماية القانونية للأقليات يعني أن هناك جماعات لها وزنها وأهميتها لا تقبل ضمنا النموذج الجمعي. فمثلا كانت دساتير بلغاريا وتركيا بعد الحرب العالمية الأولى تتضمن حق الاستقلال الذاتي للأقليات. كما أن دستور الولايات المتحدة ينشد حماية الأقليات في الحقوق.

إن هناك جماعات مثل الجماعة الشمالية المسيطرة في (السودان) لا تقبل مبدأ الحقوق المتساوية للأقليات من ثم تَحتَم تطبيق قوة القانون الإلزامية عليها. وقد تكون أحكام الأمم المتحدة معنوية أكثر منها قانونية في مضمونها، ولكنها تناديbبإقامة قانون دوليbحاسم يدين أنواع الإبادة الجماعية لشعوب مثل شعب البجه، والذي كان جزءا من سياسة هتلر للقضاء على بعض الشعوب. سبق للأمم المتحدة أن اتخذت قرارات بالتدخل الدولي في كل من كوريا وحرب الخليج والصومال. كذلك تم إتخاذ مثل هذا القرار من قبل حلف الأطلسي وأمريكا في كوسوفو لحماية الأقلية المسلمة من الإبادة العرقية Xالتطهير العرقيZ، الذي أصبح مبررا للتدخل الدولي. وتقوم أمريكا حاليا بحشد دعم دولي (أغسطس 1999) للتدخل في السودان لحماية الأقليات العرقية والدينية من التطهير العرقي وتجاوزات حقوق الإنسان في جنوب (السودان) وجبال النوبة والأنقسنا.

ويعد (حق تقرير مصير الشعوب) أحد المباديء التي تضمنتها النقاط الأربع عشرة للرئيس الأمريكي ويلسون. فإذا أمكن تحقيقه فإنه يمكن التخلص من الأقليات (القومية) بتكوين دولة من كل أقلية إذا رغبت في ذلك). إذ أن الدولة ذات الثقافة الواحدة واللغة  الواحدة أكثر قابلية للنجاح. وهذا الحل له أهمية لصالح (السلام) إذ أنه وجه اهتماما واعيا محددا نحو حقوق الأقليات، وبخاصة حالة البجه حيث أهمل مبدأ تقرير المصير.

إن الجماعة الشمالية المسيطرة في (السودان) تريد شعب البجه حولها، ولكنها تريد في نفس الوقت أن تحتفظ به (في مكانه) خاضعا مستَغلا.  بالإضافة إلى أن هذه الجماعة المسيطرة تقدم بعض الوعود لتحقيق المساواة في النهاية، ولكنها مجرد وعود كاذبة.

إن الصراع بين الجماعة الشمالية المسيطرة في (السودان) وشعب البجه أصبح قاسيا ومتطرفا من الجانب الأول، إلى حد أصبح فىه تدمير الكيان المادي لشعب البجه هدفا معقولا من الجماعة المسيطرة، الذي تمارسه عن طريق عدم نشر التعلىم وتجاهل المجاعات والأمراض التي أفنت نفوسا كثيرة من شعب البجه، مثلما أفنى الأمريكان ثلثي الهنود الحمر، وكما قام الاستراليون بقتل ونفي سكان استراليا الأصليين.

(71) موقف الإسلام من الأقليات 

يتميز الدين الإسلامي بالتسامح تجاه الديانات السماوية الأخرى. فقد رسم القرآن الكريم والأحاديث الشريفة عند المسلمين الطريق لهم في معاملة غير أتباع ديانتهم من أهل الكتاب - كما أباح الإسلام للمسلمين ان يؤاكلوا غير المسلمين من أهل الكتاب وأن يصاهروهم مما يخلق امتزاجا.

فالإختلافات العرقية واللغوية ليست إلا آيات قدرة الله الذي (من آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) (الروم 22).

فليست اللهجات واللغات والألوان والأعراف إلا مجرد إختلافات شكلية لغاية عملية.

إن وجود لغة مختلفة للبجه ليس شذوذا وإنما لحكمة إلهية وآية من آيات الله فلا يستطيع أي بشر كان أن يمحو هذه اللغة ويجب المحافظة علىها لأنها نعمة من نعم الله امتن بها على عباده.

موقف الأقليات في الفكر الغربى (74) 

انتشر في اوروبا وأمريكا في القرن التاسع عشر المذهب الدارويني الاجتماعي العنصري، وهو يدعو لبعض المفاهيم العلمية الخاطئة التي تعتقد بسيادة (العنصر الأبيض) ويتضمن هذا الإدعاء تعظيم شأن العوامل البيولوجية في الإختلافات العرقية سواء كانت عوامل وراثية أو فردية. وأصبحت مقاييس اختبارات الذكاء موضع اقتناع كدليل محدد على وجود الاختلافات العرقية.

موقف الأقليات في الفكر الماركسي (75) 

تقوم الماركسية على مبدأ الأممية، بمعنى المساواة بين الأصول القومية للطبقة العاملة وبين أحزابها، والجمع الشامل بين الأممية والروح الوطنية والتمازج بين الأممية والوطنية في حياة الطبقة العاملة وجميع الكادحين ونشاطهم واخضاع مصالح الطبقة العاملة في كل دولة لمصالح الحركة العماليه ككل.

وكانت أهم مطالب الحزب الشيوعي التي أقرها المؤتمر الثاني عام 1903م - فىما يتعلق بالمسألة القومية تتضمن حق الأمم في تقرير مصيرها، والمساواة الكاملة لجميع المواطنين بصرف النظر عن العقيدة والقومية والجنس، وإلغاء الإمتيازات الطبقية، وحق السكان في استخدام اللغة القومية في المؤسسات الحكومية والاجتماعية وفي المدارس إلخ.

 

 

البجه وحقوق الإنسان

صدر (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) في العاشر من ديسمبر 1948م وتناول قضية حرية الإنسان وإنماء شخصيته وكذلك قضية التمييز العنصري.

فلقد جاء في (المادة الثانية) من هذا الإعلان.

(لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر إلخ).

وهذه المادة تؤكد حقوق الإنسان البجاوي في استعمال لغته وابداء رأيه السياسي في الظلم الذي يتعرض له.

ونصت الفقرة الثانية من المادة (السادسة والعشرين) على أنه ( يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماءً كاملا، وإلى تعزيز إحترام الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية، وإلى زيادة مجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام ).

إن هذا الإعلان يكشف الثغرات الموجودة في كل الدساتير السابقة أو الحالية التي تتنافى مع حقوق الإنسان وتتجاهل حقوق البجه كأقلية، وتتجاهل البجاوي كإنسان له الحق في التمتع بثقافته العريقة التي مضى علىها أكثر من خمسة الآف عام.

ويظل الظلم واقعا فعلىا على شعب البجه بعد قرابة نصف قرن من خروج الاستعمار البريطاني من (السودان) فمنذ العهد العظيم (الماجنا كارتا) وقد تمت صياغة إعلانات الحقوق والحريات أساسا للجماعات الوطنية.

إن التنظيم السياسي والاقتصادي المفضي إلى تكوين دولة (السودان) لم يتحقق بعد إلا بصفة جزئية، فلا يتعدى هذا التنظيم حدود الشمالية المنعّمة. ومعنى هذا أن البيئة الاجتماعية والاقتصادية التي تنبت فىها فلسفة حقوق الإنسان والتي تتحقق في اطارها هذه الحقوق فعلا لا وجود لها خارج العاصمة المثلثة، أو بعبارة أخرى فإن الشروط المسبقة لإقامة هذه الحقوق لا زالت غير متوفرة.

إن الكفاح ضد الاستعمار يدور تحت رآية حقوق الإنسان لأن النظام الاستعماري يعتبر في حد ذاته إنكار لهذه الحقوق - ولهذا فإن حقوق الإنسان هي أداة الكفاح المناهض للاستعمار. ويتضح هذا المعنى بجلاء في القرار الشهير الذي أصدرته الأمم المتحدة، القرار  رقم (1514) لعام 1960م تعلن فىه ضرورة وضع حد للاستعمار في كافة أشكاله ومظاهره سريعا وبدون شروط، وأن اخضاع الشعوب للقهر وللسيطرة والاستغلال الأجنبي يتنافى مع الحقوق الأساسية للإنسان.

ونجد أن مضمون حقوق الإنسان في بلاد البجه وبقية بلاد العالم الثالث، يرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم رد الاعتبار - ومفاده استخلاص معناً جديداً للكرامة الوطنية وإعادة استكشاف القيم اللصيقة بالجماعة (مثل شعب البجه) التي خضعت طويلا للاستعمار واستخراج شعب البجه من صميم ثقافته التقليدية.

لقد كانت توجد في هذه البلاد منذ بضعة آلاف من السنين حضارات ودول مستقلة مزدهرة نافست الحضارة الفرعونية في مصر واستمرت حتى استعمار محمد علي باشا لها (عام 1842م)، ولم تكن تقل عن مثيلاتها في القارات الأخرى. إذ كان البجه في ذلك الوقت أحرارا ينعمون بالحرية السياسية والاستقلال الاقتصادي وكانت حضارتهم تنطوي على بنية أساسية اجتماعية خاصة بهم كما كانت ثقافتهم أصيلة حقا.

إن الحجة القائلة بأن (السودان) دولة نامية يتعين علىها تكريس جهودها أولا في تطوير البنية الأساسية، وفي بنائها القومي، وأن قلب الأولويات إرضاء لقرارات تصدرها المنظمات الدولية واستجابة لبعض الدول المانحة وتحت ضغط الأقليات المقهورة، قد يعرض استقرار البلاد أو حتى بقائها ووجودها للخطر. فإن هذه حجج واهية. فهنالك تناقض بين حقوق الإنسان والتخلف في الميدان الخاص الذي تشكله الثقافة.

تنص المادة (72) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن لكل شخص الحق في الإسهام في حرية الحياة الثقافية للجماعة والاستمتاع بالفنون والاشتراك في التقدم العلمي وفي جني الثمار المترتبة على ذلك.

إن هذا الحق بعيد عن واقع شعب البجه الذي يرسف في ظلم الجهل والفقر، إذ أن من البديهي أن حق الفرد في الثقافة يفترض لكي يوجد شرطين لا يتوفران لشعب البجه.

فهو حق يفترض أولا أن يبلغ الفرد لمستوى من المعيشة يمكّنه من ضمان صحته ورفاهيته له ولأسرته وخاصة بالنسبة للغذاء والكساء والسكن والرعاية الصحية عملا بما تنص علىه المادة (52) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

إن الفرد البجاوي الذي يرزح تحت السيطرة والاستغلال لم يتوصل لهذا المستوى نتيجة لمعاناته من سوء التغذية والمجاعة ولحرمانه من السكن اللآئق، ومن عدم توفر الرعاية الطبية في أدنى صورها، مما أدى إلى أن تنعدم لديه الرغبة في المساهمة في الحياة الثقافية لجماعته. بل وتنعدم إمكانية هذه المساهمة نفسها. فلا يمكن أن تطرح بالنسبة لهذا الفرد البجاوي مسألة استمتاعه بالفنون والآداب ومن باب أولى اسهامه في التقدم العلمي.

وفي المحل الثاني يفترض في وجود الحقوق الثقافية أن الحق في التعلىم كما تنص علىه المادة (26) من  الإعلان العالمي لحقوق الإنسان - قد انتقل إلى حيز التطبيق العملي، فلا وجود لحق في الثقافة من الناحية الفعلىة في بلاد البجه لأنه لا يتوفر به حد أدنى من التعلىم.

فالفرد البجاوي الذي لم ينل القسط الأدنى من التعلىم ولا يعرف القراءة والكتابة مفصول تماما عن الثقافة الحقيقية وليس من شك أن الأغلبية الساحقة من شعب البجه تتكون من الأميين.

وبناءً على ما تقدم يتضح لنا كيف يتعدل مضمون الحقوق الثقافية تبعا لاستيفاء هذين الشرطين المسبقين وهما (الحق في المستوى المعيشي الكافي)، و (الحق في التعلىم) ومن الثابت أن أيا منهما لم ينل حتى الآن التطبيق الكافي في بلاد البجه.

إن مفهوم رد الاعتبار مهم جدا بالنسبة لشعب البجه، ويجب أن ترتبط الحقوق الثقافية في هذا المجتمع المتخلف بالتعلق بالماضي، وأن ترتبط إرتباطا وثيقا بفكرة التنمية أكثر من إرتباطها بأوقات الفراغ، فالحق في الثقافة في مثل هذا المجتمع لا يزال يختلط إلى حد ما بالحق في التعلىم.

إن لحقوق الإنسان أهمية خاصة في دولة مثل (السودان) لكثرة ما ترتكب فىه من إنتهاكات صارخة ضد هذه الحقوق، تارة باسم التعجيل بالتنمية، وتارة بدعوى الأزمة الاقتصادية والاضطرابات السياسية، والاعتداءات الأجنبية، وتارة أخرى بذريعة الدفاع القومي عن الوحدة الوطنية المزعومة وأخيراً  بحجة الدفاع عن الإسلام في عهد الإنقاذ.